عادة مايقارن أهل النظر في عصرنا بين الإمام الغزالي وديكارت في قضية الشك، وأقول إن شك الإمام الغزالي ليس ببعيد عن واقعه، فلعله قد تأثر من أستاذه وشيخه الجويني، وفي هذا يقول الجويني: لقد قرأت خمسين ألفا في خمسين ألفا ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها، وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام عنها، كل ذلك في طلب الحق… إلخ.(1)
الشك الذي يكون باعثًا على البحث والنظر محمود، وأما الشك الذي يجعل الإنسان محتارًا لاأدريًا فهذا مذموم.
قلنا إنه عادةً مايُقَارن بين الإمام الغزالي وديكارت، ولكن وأنا أقرأ للأستاذ الأديب أحمد أمين، وجدته وضع مقارنةً جميلةً بين الإمام الغرالي، والأديب الروسي تولستوي، فأحببتُ نشرها لتعم الفائدة.
قال الأستاذ أحمد أمين:
كتاب (اعترافات تولستوي) فوقع في نفسي موقعًا جميلًا، إذ رأيته يُصوِّر حياته وقد رَكن أول الأمر إلى العقل وحده، وإلى العقل الواقعي لا غير، فأسلمه الاعتماد على المقدمات المنطقية المادية وحدها إلى الإلحاد، وعدَّ الدين خرافة من الخرافات، ولكنه شعر بعد حين بأن الحياة لاقيمة لها، وأنها فارغة من المعاني.
إن هذه الحياة المادية التي تركن إلى العقل الجاف وحده لاتستطيع أن تجيب على الأسئلة الآتية: ماقيمة الحياة؟ مالذي يربط بين الحياة المادية المحدودة وبين الأبدية؟ ومالذي يربط بين حياة الإنسان الجزئية والإنسانية الكلية؟ إلى مثل هذه الأسئلة. فكان لايجد في قضايا العقل وحدها جوابًا، وساءت نفسه، وأظلم تفكيره، وأدرك أن الحياة على هذا الوضع نكتة سخيفة، وأنها لاتستحق البقاء، وحاول الانتحار مرارًا، وفي كل ذلك كان يهزأ بالدين، ولايريد أن يتجه إلى التفكير فيه. وأخيرًا بعد الشقاء الطويل والعذاب الأليم اتجه إلى الدين؛ لينظر كيف يحل هذه الأسئلة، فرأى أنه وحده الذي يفسر معنى الحياة، ويربط الحياة الجزئية بالكلية، والنفس الفردية بالإنسانية، فاطمأنت نفسه وانقلب متدينًا.
فكان في هذا الكتاب عزاء لنفسي ومجال لبعض تفكيري، وقارنت بين موقف تولستوي وموقف الغزالي، فقد كنتُ قرأتُ له كتاب (المنقذ من الضلال)، وكان مما حكى عن نفسه أنَّه مَرَّ بمثل هذا الدور؛ شك في كل التقاليد الدينية، واستعرض المذاهب المختلفة في الدين، وأحب أن يركن إلى الفلسفة وحدها فلم تسعفه، وإلى تعاليم الباطنية فلم يطمئن إليها، واستولى عليه الشك حتى غمره، ووقع في أزمة نفسية حادة، واحتقر سخافات الناس في التخاصم على المال والجاه والمنصب فنفر من كل ذلك.
وأخيرًا بعد أن استحكمت أزمته النفسية، وأخذت منه كل مأخذ، مرض مرضًا شديدًا، ولا أشك أن مرضه الجسمي كان نتيجة لمرضه النفسي، ثم أفاق قليلًا قليلًا وإذا هو يخرج من هذه الأزمة، كما خرج منها تولستوي متدينًا بالقلب لا بالمنطق، وبالشعور النفسي الغريز لابالمقدمات الفلسفية، وإن كان الفرق بينهما:
أن تولستوي آمن بعد إلحاد، والغزالي آمن إيمان كشف بعد إيمان تقليد بينهما فترة شك.(2)
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) طبقات الشافعية للسبكي 5/ 185
(2) حياتي أحمد أمين ص 203
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق