عند تتبّع أثر التراث الإسلامي على نشأة الفكر الحديث في أوروبا، يبرز سؤالٌ مثير: هل اطّلع فلاسفة النهضة الغربية، ممن انتقد بنية المنطق الأرسطي كفرانسيس بيكون على تراث ابن تيمية النقدي في هذا الباب؟
إن النظرة السردية المجردة لتاريخ الفلسفة الغربية قد تستبعد ذلك بدعوى غياب النَّصوص الصريحة التي تنسب تأثرهم بذلك صراحة إما من شاهد تاريخي أو تنصيصٍ نقلي، ولكن النظرة المتأنية التي تعتمد على استقراء السياق التاريخي والميداني قد تقودنا إلى استنتاجات مغايرة، وإن لم تكن قطعية، ولكن عدم قطعتيها لا يعني تجاهلها.
لقد كان ابن تيمية أهم النقاد المسلمين لبنية المنطق الأرسطي، بل إنه قطب الرحى لمن أتى بعده من المسلمين خاصة، وقد تميّز نقده بأنه لم يأتِ من موقع الجهل أو الإعراض، بل من موقع العمق الفلسفي والمعرفي والاطلاع الواسع على المنطق وصوره المختلفة، ومراحله الزمنية المتعددة بدءًا من أرسطو ومرورًا بالشراح المسلمين والمؤسسين لمرحلة جديدة وولادة حية للمنطق الصوري على يد المحققين كالفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد وغيرهم، ولذلك تميز رده بنقد البناء والتركيب المنطقي.
وقد جمع في كتابه “الرد على المنطقيين” بين عمق التحليل، وصلابة البرهان، وجرأة النقض، حتى كان بحقّ من أعمدة التفكير الإسلامي الحر والمتحرر من هيمنة النموذج الأرسطي، الذي أصبح التحرر من قيوده عنونًا للحداثة في أزمنة لاحقة.
في عصر النهضة الأوروبية ظهر تيار نقدي للمنطق التقليدي، تَمثَّل في شخصية فرانسيس بيكون -وغيره- الذي دعا إلى الاستقراء العلمي، والتجربة العملية، وهاجم القياس الأرسطي، وعدّه غير كافٍ لإنتاج المعرفة.
هذا المساق النقدي لم يكن معزولًا عن البيئة الفكرية التي سبقته، بل جاء في سياق تفاعل معرفي طويل الأمد بين الشرق والغرب، بدأ منذ الحروب الصليبية، وامتد عبر الترجمة، والأسفار، والاحتكاك الحضاري، خاصة في الأندلس والشام وصقلية.
ومن هنا تظهر قرينة لا يجب الإغفال عنها: لقد كانت الحروب الصليبية جسرًا مباشرًا نقل الغرب من خلاله كثيرًا من التراث الإسلامي، لا سيما أن الصليبيين مكثوا في بلاد الشام عقودًا طويلة، وهي نفس الأرض التي عاش فيها ابن تيمية، وتنقّل فيها، ودرّس فيها، وألّف فيها. ولا يُستبعَد أن بعض نتاجه قد وقع في أيدي الصليبيين من ضمن ما أخذوه من التراث الإسلامي وبالتالي انتقل إلى المترجمين أو الباحثين الأوروبيين الذين احتكوا بالمشرق، خاصة وأننا نعلم اليوم – عبر فهارس المخطوطات– أن عددًا غير قليل من مؤلفات ابن تيمية ما يزال محفوظًا في مكتبات أوروبية عريقة، كمكتبة برلين، والمكتبة الوطنية الفرنسية، ومكتبة أكسفورد، وغيرها. وهذه الحقيقة المادية – أي وجود المخطوط نفسه في مكتبة أوروبية منذ قرون – ليست قرينة ضعيفة، بل دليل محسوس على انتقال تراثه إلى الفضاء الأوروبي، ولو دون ترجمة أو نسبة في بعض الحالات. وجود المخطوط قد لا يعني بالضرورة الاطلاع المباشر عليها، لكنه يجعل هذه النظرية أكثر من مجرّد افتراض، بل يُقرّبه إلى دائرة الاحتمال العقلي المعتبر.